حلاوة الجزاء

قال أبو إبراهيم ،كنت أمشي في صحراء ، فضللت الطريق ، فوقفت على خيمة قديمة فنظرت فيها فإذا رجل جالس على الأرض بكل هدوء ، وإذا هو قد قطـّعت يداه ، وإذا هو أعمى ، وليس عنده أحد من أهل بيته ، رأيته يتمتم بكلمات ، اقتربت منه وإذا هو يردّد قائلاً : الحمد لله الذي فضّلني على كثير ممـّن خلق تفضيلاً ، الحمد لله الذي فضّلني على كثير ممـّن خلق تفضيلاً .

فعجبت من كلامه وجعلت أنظر إلى حاله ، فإذا هو قد ذهبت أكثر حواسه ، وإذا هو مقطوع اليدين ، أعمى العينين ،وإذا هو لا يملك لنفسه شيئاً ، نظرت حوله ، أبحث عن ولد يخدمه ، أو زوجة تؤانسه ، لم أر أحداً ، فأردتُ أن أمضي ، شعر بحركتي ، فسأل : من ؟ من ؟
قلت : السلام عليكم ، أنا رجل ضللت الطريق ، ووقفت على خيمتك ،
وأنت الذي من أنت ؟ ولماذا تسكن وحدك في هذا المكان ؟ أين أهلك ؟ ولدك ؟ أقاربك ؟فقال : أنا رجل مريض ، وقد تركني الناس ، وتوفـّي أكثر أهلي ،

قلت : لكني سمعتك تردد : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً !! فبالله عليك ! فضلك بماذا ؟!! وأنت أعمى ، فقير ، مقطوع اليدين ، وحيد ،

فقال : سأحدثك عن ذلك ، ولكن سأطلب منك حاجة ، أتقضيها لي ؟
قلت : أجبني ، وأقضي حاجتك .

فقال : أنت تراني قد ابتلاني الله بأنواع من البلاء ، ولكن : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..أليس الله قد أعطاني عقلاً ؟ أفهم به ، وأتصرف وأفكر ؟ قلت : بلى ، قال : فكم يوجد من الناس مجانين ؟ قلت : كثير .. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً .

أليس الله قد أعطاني سمعاً ؟ أسمع به أذان الصلاة .. وأعقل به الكلام .. وأعلم ما يدور حولي ؟ قلت : بلى .قال : فكم يوجد من الناس .. صمٌ لا يسمعون ؟ قلت : كثير ..

قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً .أليس الله قد أعطاني لساناً ؟ أذكر به ربي وأبين به حاجتي ؟ قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس بكمٌ .. لا يتكلمون ؟قلت : كثير .. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..

أليس الله قد جعلني مسلماً ، أعبد ربي .. وأحتسب عنده أجري .. وأصبر على مصيبتي ؟؟ قلت : بلى ..قال : فكم يوجد من الناس من عباد الأصنام والصلبان .. وهم مرضى .. قد خسروا الدنيا والآخرة ..؟!!قلت : كثير .. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً .
ومضى الشيخ يعدّد نعم الله عليه .. وأنا أزداد عجباً من قوة إيمانه .. وشدّة يقينه .. ورضاه بما أعطاه الله ..

كم من المرضى غيره .. ممن لم يبتلوا ولا بربع بلائه ..ممن شلـّهم المرض .. أو فقدوا أسماعهم أو أبصارهم ..أو فقدوا بعض أعضائهم ..ويعتبرون أصحاء لو قارناهم به .. ومع ذلك .. عندهم من الجزع والتشكي .. والعويل والبكاء ..
بل وضعف الصبر وقلـّة اليقين بالأجر .. ما لو قـُسّم على أمـّة لوسعهم
سبحت بتفكيري بعيداً .. ولم يقطعه عليّ إلا قول الشيخ ..

هاه ..!! أأذكر حاجتي ..؟ هل تقضيها .. ؟ قلت : نعم .. ما حاجتك ؟!
فخفض رأسه قليلاً .. ثم رفعه وهو يغص بعبرته وقال :لم يبق معي من أهلي إلا غلام لي .. عمره أربع عشرة سنة ..هو الذي يطعمني ويسقيني .. ويوضـّئني .. ويقوم على كلّ شأني
وقد خرج البارحة يلتمس لي طعاماً .. ولم يرجع إلى الآن .. ولا أدري .. أهو حيّ يُرجى .. أم ميـّت ينسى ..وأنا كما ترى .. شيخ كبير أعمى .. لا أستطيع البحث عنه ،

فسألته عن وصف الغلام .. فأخبرني ..فوعدته خيراً ثم خرجت من عنده .. وأنا لا أدري كيف أبحث عن الغلام .. وإلى أي جهة أتوجـّه ؟! فبينما أنا أسير .. ألتمس أحداً من الناس أسأله عنه إذ لفت نظري قريباً من خيمة الشيخ جبل صغير .. عليه سرب غربان قد اجتمعت على شيء .. فوقع في نفسي أنها لم تجتمع إلا على جيفة أو طعام منثور ..فصعدت الجبل .. وأقبلت إلى تلك الطيور فتفرقت ..

فلما نظرت إلى مكان تجمعها .. فإذا الغلام الصغير ميت مقطع الجسد .. وكأن ذئباً قد عدا عليه .. وأكله ثمّ ترك باقيه للطيور لم أحزن على الغلام بقدر حزني على الشيخ ..نزلت من الجبل .. أجر خطاي .. وأنا بين حزن وحيرة .. هل أذهب وأترك الشيخ يواجه مصيره وحده .. أم أرجع إليه وأحدثه بخبر ولده ..؟! توجهت نحو خيمة الشيخ .. بدأت أسمع تسبيحه وتهليله ..كنت متحيراً .. ماذا أقول .. وبماذا أبدأ ..

مرّ في ذاكرتي قصة نبي الله أيوب عليه السلام ..فدخلت على الشيخ .. وجدته كسيراً كما تركته ..سلمت عليه .. كان المسكين متلهفاً لرؤية ولده .. بادرني قائلاً :
أين الغلام .. قلت : أجبني أولاً .. أيهما أحبّ إلى الله تعالى أنت أم أيوب عليه السلام ؟

قال : بل أيوب عليه السلام أحبّ إلى الله .. قلت : فأيكما أعظم بلاءً .. أنت أم أيوب عليه السلام ؟قال : بل أيوب عليه السلام..قلت إذن فاحتسب ولدك عند الله .. قد وجدته ميتاً في سفح الجبل .. وقد عدت الذئاب على جثته فأكلته ..
فشهق الشيخ .. ثم شهق .. وجعل يردد .. لا إله إلا الله .. وأنا أخفف عنه وأصبره ..ثم اشتد شهيقه .. حتى انكببت عليه ألقنه الشهادة .. ثم مات بين يدي ..غطيته بلحاف كان تحته ..ثم خرجت أبحث عن أحد يساعدني في القيام بشأنه ..فرأيت ثلاثة رجال على دوابـّهم .. كأنهم مسافرين .. فدعوتهم .. فأقبلوا إليّ .. فقلت : هل لكم في أجر ساقه الله إليكم .. هنا رجل من المسلمين مات .. وليس عنده من يقوم به .. هل لكم أن نتعاون على تغسيله وتكفينه ودفنه ..قالوا : نعم ..فدخلوا إلى الخيمة وأقبلوا عليه ليحملوه .. فلما كشفوا عن وجهه ..
تصايحوا : أبو قلابة .. أبو قلابة ..وإذا أبو قلابة .. شيخ من علمائهم .. تكالبت عليه البلايا .. حتى انفرد عن الناس في خيمة بالية .. قمنا بواجبه علينا .. ودفناه .. وارتحلت معهم إلى المدينة ..فلما نمت تلك الليلة .. رأيت أبا قلابة في هيئة حسنة .. عليه ثياب بيض .. وقد اكتملت صورته .. وهو يتمشى في أرض خضراء ..سألته : يا أبا قلابة .. ما صيـّرك إلى ما أرى ؟!

فقال : قد أدخلني ربي الجنة .. وقيل لي فيها ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) ..
( القصة بتصرف يسير من السير للذهبي ) ..
فيا أخي الغالي يا من ابتلاك الله بالأمراض والأسقام والهموم والغموم احمد الله تعالى على ذلك ، وتذكـّر كلـّما ازداد عليك المرض واشتدّ عليك البلاء أنّ هناك من هو أشدّ منك بلاء وألما ،
ثمّ تذكر عظيم الأجر إن صبرتَ على ما ابتلاك الله به ، وتذكـّر ما نقلته لك آنفا : عن جابر مرفوعاً: (يود النـّاس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء) أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع .

طبعا لا يعني موضوعي هذا وما نقلته فيه أن يتمنـّى الإنسان أن يبتليه الله تعالى بالأمراض والأحزان بل فليشكر الله تعالى المعافى من الأمراض ربّه على نعمة الصحـّة والعافية عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . رواه البخاري

وليحمد لا الله تعالى المبتلى ولا يسخط ولا يجزع ولا يتضجـّر ، مع سعيه للعلاج فهذا السعي لا ينافي التـّوكل أو الرضى بقضاء الله تعالى ، فكما أنّ الأمراض من قدر الله تعالى فكذلك العلاج والأخذ بالأسباب .

قال الشيخ الشنقيطي حفظه الله في شرح زاد المستقنع :
وأما إذا اشتكيت وأخذت ذات اليمين والشمال فأنت بين أمرين: إن اشتكيت شكوى للعلاج والأخذ بالأسباب كشكوى المريض إلى طبيبه فهذا من تعاطي الأسباب، وقد اشتكى عليه الصلاة والسلام فقال: (وا رأساه )، وأما إذا كان إخباراً بالحال فلا بأس كما اشتكى عليه الصلاة والسلام فيما ذكرنا، وأما إذا كانت الشكوى تسخطاً من القضاء والقدر فقد ضاقت النفس، وعزب الرشد، وحينها يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن سخط فعليه السخط )، نسأل الله السلامة والعافية، فلا تتسخط على قضاء الله وقدره، وارض بما قسمه الرحمن، وانظر إلى من هو أشد بلاء وضرراً، واحمد الله جل وعلا على عافيتك.( انتهى )
وإليك أخي الغالي أخيرا بعض الأدعية المأثورة من القرآن والسنـّة دون أن أعلـّق عليها فهي واضحة بإذنه تعالى :

(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الانبياء:83)
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الانبياء:87)
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أءِِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)

1:عن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر " . قال : ففعلت فأذهب الله ما كان بي . (رواه مسلم )

2 : جاءت الشياطين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية ، و تحدّرت عليه من الجبال ، و فيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فرعب ، قال جعفر : أحسبه قال : جعل يتأخر . قال : و جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد قل . قال : ما أقول ؟ قال : قل : " أعوذ بكلمات الله التـّامـّات التي لا يجاوزهنّ برّ و لا فاجر ، من شرّ ما خلق و ذرأ و برأ ، و من شرّ ما ينزل من السّماء ، و من شرّ ما يعرج فيها ، و من شرّ ما ذرأ في الأرض ، و من شرّ ما يخرج منها ، و من شر فتن الليل و النـّهار ، و من شرّ كلّ طارق إلاّ طارقا يطرق بخير يا رحمن ! " فطفئت نار الشّياطين ، و هزمهم الله عز وجل " .( السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله)

3: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب : " اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي "
(شرح العقيدة الطحاوية الألباني)

4: ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من بلايا الدنيا دعا به يفرّج عنه ؟ فقيل له : بلى فقال : دعاء ذي النون : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله)

5: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النـّبي صلـّى الله عليه وسلـّم قال من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض ( صحيح الترغيب والترهيب للألباني)

أسأله تعالى أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين ويجعل أمراضهم رفعا لدرجاتهم وتكفيرا لسيّئاتهم .
وأختم بقوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام أنـّه قال(وإذا مرضتُ فهو يشفين)
وبهذه الأبيات من الشعر :
يا صاحب الهمّ إنّ الهمّ منفرج... أبشر بخير فإنّ الفارج الله
وإذا بُليت فثق بالله وارض به.... إنّ الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة... لا تجزعنّ فإنّ الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحد... فحسبك الله في كلّ لك الله

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلـّى الله تعالى على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .